الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير ***
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آَمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)} قوله: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ} قرأ الجمهور: {أوحى} رباعياً. وقرأ ابن أبي عبلة، وأبو إياس، والعتكي عن أبي عمرو: «وحي» ثلاثياً، وهما لغتان. واختلف هل رآهم النبيّ صلى الله عليه وسلم أم لم يرهم؟ فظاهر القرآن أنه لم يرهم؛ لأن المعنى: قل يا محمد لأمتك: أوحي إليّ على لسان جبريل {أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} ومثله قوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان} [الأحقاف: 29] ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنّ وما رآهم. قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صلى الله عليه وسلم هي {اقرأ باسم رَبّكَ الذى خَلَقَ} [العلق: 1] وقد تقدّم في سورة الأحقاف ذكر ما يفيد زيادة في هذا. قوله: {أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} هذا هو القائم مقام الفاعل، ولهذا فتحت أنّ، والضمير للشأن، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقام الفاعل الجارّ والمجرور، والنفر اسم للجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة. قال الضحاك: والجنّ ولد الجانّ وليسوا شياطين. وقال الحسن: إنهم ولد إبليس. قيل: هم أجسام عاقلة خفية تغلب عليهم النارية والهوائية. وقيل: نوع من الأرواح المجرّدة. وقيل: هي النفوس البشرية المفارقة لأبدانها. وقد اختلف أهل العلم في دخول مؤمني الجنّ الجنة، كما يدخل عصاتهم النار لقوله في سورة تبارك: {وجعلناها رُجُوماً للشياطين وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} [الملك: 5] وقول الجنّ فيما سيأتي في هذه السورة: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] وغير ذلك من الآيات، فقال الحسن: يدخلون الجنة، وقال مجاهد: لا يدخلونها، وإن صرفوا عن النار. والأوّل أولى لقوله في سورة الرحمن: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ} [الرحمن: 56] وفي سورة الرحمن آيات غير هذه تدل على ذلك فراجعها، وقد قدّمنا أن الحق أنه لم يرسل الله إليهم رسلاً منهم، بل الرسل جميعاً من الإنس، وإن أشعر قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ} [الزمر: 71] بخلاف هذا، فهو مدفوع الظاهر بآيات كثيرة في الكتاب العزيز دالة على أن الله سبحانه لم يرسل الرسل إلاّ من بني آدم، وهذه الأبحاث الكلام فيها يطول، والمراد الإشارة بأخصر عبارة. {فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءانَاً عَجَباً} أي: قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم، أي: سمعنا كلاماً مقروءاً عجباً في فصاحته وبلاغته. وقيل: عجباً في مواعظه. وقيل: في بركته، وعجباً مصدر وصف به للمبالغة، أو على حذف المضاف، أي: ذا عجب، أو المصدر بمعنى اسم الفاعل أي: معجباً {يَهْدِى إِلَى الرشد} أي: إلى مراشد الأمور، وهي الحقّ والصواب، وقيل: إلى معرفة الله، والجملة صفة أخرى للقرآن {فآمنا به} أي: صدّقنا به بأنه من عند الله {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} من خلقه، ولا نتخذ معه إلها آخر؛ لأنه المتفرّد بالربوبية، وفي هذا توبيخ للكفار من بني آدم حيث آمنت الجنّ بسماع القرآن مرّة واحدة، وانتفعوا بسماع آيات يسيرة منه، وأدركوا بعقولهم أنه كلام الله وآمنوا به، ولم ينتفع كفار الإنس لا سيما رؤساؤهم وعظماؤهم بسماعه مرّات متعدّدة، وتلاوته عليهم في أوقات مختلفة مع كون الرسول منهم يتلوه عليهم بلسانهم لا جرم صرعهم الله أذلّ مصرع، وقتلهم أقبح مقتل، ولعذاب الآخرة أشدّ لو كانوا يعلمون. {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} قرأه حمزة، والكسائي، وابن عامر، وحفص، وعلقمة، ويحيى بن وثاب، والأعمش، وخلف، والسلمي: {وأنه تعالى} بفتح أنّ، وكذا قرءوا فيما بعدها مما هو معطوف عليها، وذلك أحد عشر موضعاً إلى قوله: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19]، وقرأ الباقون بالكسر في هذه المواضع كلها إلاّ في قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} [الجن: 18] فإنهم اتفقوا على الفتح، أما من قرأ بالفتح في هذه المواضع، فعلى العطف على محل الجار، والمجرور في {فآمنا به} كأنه قيل: فصدّقناه، وصدّقنا أنه تعالى جدّ ربنا إلخ، وأما من قرأ بالكسر في هذه المواضع، فعلى العطف على {إنا سمعنا}، أي: فقالوا: إنا سمعنا قرآناً، وقالوا: إنه تعالى جدّ ربنا إلى آخره. واختار أبو حاتم، وأبو عبيد قراءة الكسر؛ لأنه كله من كلام الجنّ ومما هو محكيّ عنهم بقوله: {فقالوا إنا سمعنا}. وقرأ أبو جعفر، وشعبة بالفتح في ثلاثة مواضع، وهي: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس} قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي لأنه من كلام الجنّ. وقرأ الجمهور: {وأنه لما قام عبد الله} [الجن: 19] بالفتح؛ لأنه معطوف على قوله: {أَنَّهُ استمع}. وقرأ نافع، وابن عامر، وشيبة، وزرّ بن حبيش، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم بالكسر في هذا الموضع عطفاً على فآمنا به بذلك التقدير السابق، واتفقوا على الفتح في {أَنَّهُ استمع}، كما اتفقوا على الفتح في {أن المساجد} [الجن: 18] وفي {وَإِنَّ استقاموا} [الجن: 16] واتفقوا على الكسر في: {فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا} و{قُلْ إِنَّمَا ادعوا رَبّى} [الجن: 20] و: {قُلْ إِنْ أَدْرِى} [الجن: 25] و: {قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ} [الجن: 21]. والجدّ عند أهل اللغة العظمة والجلال، يقال: جدّ في عيني أي: عظم، فالمعنى: ارتفع عظمة ربنا وجلاله، وبه قال عكرمة، ومجاهد، وقال الحسن: المراد تعالى غناه، ومنه قيل للحظ، جدّ: ورجل مجدود أي: محظوظ، وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» قال أبو عبيد، والخليل أي: لا ينفع ذا الغنى منك الغنى أي: إنما تنفعه الطاعة، وقال القرطبي، والضحاك: جدّه آلاؤه، ونعمه على خلقه. وقال أبو عبيدة، والأخفش: ملكه وسلطانه. وقال السديّ: أمره. وقال سعيد بن جبير: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} أي: تعالى ربنا وقيل: جدّه قدرته. وقال محمد بن عليّ بن الحسين، وابنه جعفر الصادق، والربيع بن أنس: ليس لله جدّ، وإنما قالته الجنّ للجهالة. قرأ الجمهور: «جدّ» بفتح الجيم، وقرأ عكرمة، وأبو حيوة، ومحمد بن السميفع بكسر الجيم، وهو ضدّ الهزل، وقرأ أبو الأشهب: «جدي ربنا» أي: جدواه ومنفعته. وروي عن عكرمة أيضاً أنه قرأ بتنوين (جدّ) ورفع (ربنا) على أنه بدل من جدّ {مَا اتخذ صاحبة وَلاَ وَلَداً} هذا بيان لتعالى جدّه سبحانه. قال الزجاج: تعالى جلال ربنا وعظمته عن أن يتخذ صاحبة أو ولداً، وكأن الجن نبهوا بهذا على خطأ الكفار الذين ينسبون إلى الله الصاحبة والولد، ونزّهوا الله سبحانه عنهما. {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} الضمير في {أنه} للحديث، أو الأمر، {وسفيهنا} يجوز أن يكون اسم كان، و{يقول} الخبر، ويجوز أن يكون سفيهنا فاعل يقول، والجملة خبر كان، واسمها ضمير يرجع إلى الحديث، أو الأمر، ويجوز أن تكون كان زائدة، ومرادهم بسفيههم عصاتهم ومشركوهم. وقال مجاهد، وابن جريج، وقتادة: أرادوا به إبليس، والشطط: الغلوّ في الكفر. وقال أبو مالك: الجور، وقال الكلبي: الكذب، وأصله البعد عن القصد ومجاوزة الحدّ، ومنه قول الشاعر: بأية حال حكموا فيك فاشتطوا *** وما ذاك إلاّ حيث يممك الوخط {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} أي: إنا حسبنا أن الإنس والجنّ كانوا لا يكذبون على الله بأن له شريكاً وصاحبة وولداً، فلذلك صدّقناهم في ذلك حتى سمعنا القرآن، فعلمنا بطلان قولهم، وبطلان ما كنا نظنه بهم من الصدق، وانتصاب كذباً على أنه مصدر مؤكد ليقول؛ لأن الكذب نوع من القول، أو صفة لمصدر محذوف، أي: قولاً كذباً. وقرأ يعقوب، والجحدري، وابن أبي إسحاق: «أن لن تقوّل» من التقوّل، فيكون على هذه القراءة كذباً مفعول به {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} قال الحسن، وابن زيد، وغيرهما: كان العرب إذا نزل الرجل بوادٍ قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، فنزلت هذه الآية. قال مقاتل: كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم {فَزَادوهُمْ رَهَقاً} أي: زاد رجال الجنّ من تعوذ بهم من رجال الإنس رهقاً أي: سفهاً وطغياناً، أو تكبراً وعتوّاً، أو زاد المستعيذون من رجال الإنس من استعاذوا بهم من رجال الجنّ رهقاً؛ لأن المستعاذ بهم كانوا يقولون: سدنا الجنّ والإنس. وبالأوّل قال مجاهد، وقتادة، وبالثاني قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد. والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم، ورجل رهق: إذا كان كذلك، ومنه قوله: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج: 44] أي: تغشاهم، ومنه قول الأعشى: لا شيء ينفعني من دون رؤيتها *** هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا يعني: إثماً. وقيل: الرهق: الخوف، أي: أن الجنّ زادت الإنس بهذا التعوّذ بهم خوفاً منهم. وقيل: كان الرجل من الإنس يقول: أعوذ بفلان من سادات العرب من جنّ هذا الوادي، ويؤيد هذا ما قيل من أن لفظ رجال لا يطلق على الجنّ، فيكون قوله: {بِرِجَالٍ} وصفاً لمن يستعيذون به من رجال الإنس، أي: يعوذون بهم من شرّ الجن، وهذا فيه بعد، وإطلاق لفظ رجال على الجنّ على تسليم عدم صحته لغة لا مانع من إطلاقه عليهم هنا من باب المشاركة. {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} هذا من قول الجنّ للإنس، أي: وإن الجنّ ظنوا كما ظننتم أيها الإنس أنه لا بعث. وقيل المعنى: وإن الإنس ظنوا، كما ظننتم أيها الجنّ، والمعنى: أنهم لا يؤمنون بالبعث كما أنكم لا تؤمنون. {وَأَنَّا لَمَسْنَا السماء} هذا من قول الجنّ أيضاً، أي: طلبنا خبرها، كما به جرت عادتنا {فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً} من الملائكة يحرسونها عن استراق السمع، والحرس جمع حارس، و{شَدِيداً} صفة ل {حرساً} أي: قوياً {وَشُهُباً} جمع شهاب، وهو الشعلة المقتبسة من نار الكوكب، كما تقدّم بيانه في تفسير قوله: {وجعلناها رُجُوماً للشياطين} [الملك: 5] ومحل قوله: {مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً} النصب على أنه ثاني مفعولي وجدنا؛ لأنه يتعدّى إلى مفعولين، ويجوز أن يكون متعدّياً إلى مفعول واحد، فيكون محل الجملة النصب على الحال بتقدير قد، وحرساً منصوب على التمييز، ووصفه بالمفرد اعتباراً باللفظ، كما يقال: السلف الصالح، أي: الصالحين. {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ} أي: وأنا كنا معشر الجنّ قبل هذا نقعد من السماء مقاعد للسمع، أي: مواضع نقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وللسمع متعلق، ب {نقعد} أي: لأجل السمع، أو بمضمر هو صفة لمقاعد، أي: مقاعد كائنة للسمع، والمقاعد جمع مقعد اسم مكان، وذلك أن مردة الجنّ كانوا يفعلون ذلك؛ ليسمعوا من الملائكة أخبار السماء؛ فيلقونها إلى الكهنة، فحرسها الله سبحانه ببعثه رسوله صلى الله عليه وسلم بالشهب المحرقة، وهو معنى قوله: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} أي: أرصد له ليرمى به، أو لأجله لمنعه من السماع، وقوله: {الئان} هو ظرف للحال، واستعير للاستقبال، وانتصاب {رصداً} على أنه صفة ل {شهاباً}، أو مفعول له، وهو مفرد ويجوز أن يكون اسم جمع كالحرس. وقد اختلفوا هل كانت الشياطين ترمى بالشهب قبل المبعث أم لا؟ فقال قوم: لم يكن ذلك. وحكى الواحدي عن معمر قال: قلت للزهري: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قلت: أفرأيت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} الآية، قال: غلظت وشدد أمرها حين بعث محمد صلى الله عليه وسلم. قال ابن قتيبة: إن الرجم قد كان قبل مبعثه، ولكنه لم يكن مثله في شدّة الحراسة بعد مبعثه، وكانوا يسترقون في بعض الأحوال، فلما بعث منعوا من ذلك أصلاً. وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب، ومنعت من الدنوّ إلى السماء. وقال نافع بن جبير: كانت الشياطين في الفترة تسمع فلا ترمى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رميت بالشهب، وقد تقدّم البحث عن هذا {وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} أي: لا ندري أشرّ أريد بأهل الأرض بسبب هذه الحراسة للسماء، أم أراد بهم ربهم رشداً، أي: خيراً. قال ابن زيد: قال إبليس: لا ندري أراد الله بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذاباً، أو يرسل إليهم رسولاً، وارتفاع {أَشِرٌ} على الاشتغال، أو على الابتداء، وخبره ما بعده، والأوّل أولى، والجملة سادّة مسدّ مفعولي ندري، والأولى أن هذا من قول الجنّ فيما بينهم، وليس من قول إبليس كما قال ابن زيد {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} أي: قال بعض لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد: وأنا كنا قبل استماع القرآن منا الموصوفون بالصلاح {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} أي: قوم دون ذلك، أي: دون الموصوفين بالصلاح. وقيل: أراد بالصالحون المؤمنين، وبمن هم دون ذلك الكافرين، والأوّل أولى، ومعنى {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} أي: جماعات متفرقة وأصنافاً مختلفة، والقدة: القطعة من الشيء، وصار القوم قدداً: إذا تفرقت أحوالهم، ومنه قول الشاعر: القابض الباسط الهادي لطاعته *** في فتنة الناس إذ أهواؤهم قدد والمعنى: كنا ذوي طرائق قدداً، أو كانت طرائقنا طرائق قدداً، أو كنا مثل طرائق قدداً ومن هذا قول لبيد: لم تبلغ العين كل نهمتها *** يوم تمشي الجياد بالقدد وقوله أيضاً: ولقد قلت وزيد حاسر *** يوم ولت خيل عمرو قدداً قال السديّ، والضحاك: أدياناً مختلفة، وقال قتادة: أهواء متباينة. وقال سعيد بن المسيب: كانوا مسلمين ويهود ونصارى ومجوس وكذا قال مجاهد. قال الحسن: الجنّ أمثالكم قدرية، ومرجئة، ورافضة، وشيعة، وكذا قال السديّ: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِى الأرض} الظنّ هنا بمعنى العلم واليقين، أي: وإنا علمنا أن الشأن لن نعجز الله في الأرض أينما كنا فيها، ولن نفوته إن أراد بنا أمراً {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} أي: هاربين منها، فهو مصدر في موضع الحال. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} يعنون القرآن {آمنا به} وصدّقنا أنه من عبد الله ولم نكذب به، كما كذبت به كفرة الإنس {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} أي: لا يخاف نقصاً في عمله وثوابه، ولا ظلماً ومكروهاً يغشاه، والبخس النقصان، والرهق العدوان والطغيان، والمعنى: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته، وقد تقدّم تحقيق الرهق قريباً. قرأ الجمهور: {بخساً} بسكون الخاء. وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها. وقرأ يحيى بن وثاب، والأعمش: «فلا يخف» جزماً على جواب الشرط، ولا وجه لهذا بعد دخول الفاء، والتقدير: فهو لا يخاف، والأمر ظاهر. وقد أخرج أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وغيرهم عن ابن عباس قال: انطلق النبيّ صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها؛ لتعرفوا ما هذا الأمر الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له قالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهناك حين رجعوا إلى قومهم {فَقَالُواْ} يا قومنا {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ يَهْدِى إِلَى الرشد فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبّنَا أَحَداً} فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} وإنما أوحي إليه قول الجنّ. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} قال: كانوا من جنّ نصيبين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبّنَا} قال: آلاؤه وعظمته. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال: أمره وقدرته. وأخرج ابن مردويه، والديلمي، قال السيوطي بسندٍ واهٍ عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً في قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} قال: إبليس. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والعقيلي في الضعفاء، والطبراني، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، وابن عساكر عن عكرمة بن أبي السائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أوّل ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف الليل جاء ذئب، فأخذ حملاً من الغنم، فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي أنا جارك، فنادى منادٍ يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم وأنزل الله على رسوله بمكة {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن} الآية. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {فَزَادوهُمْ رَهَقاً} قال: إثماً. وأخرج ابن مردويه عنه قال: كان القوم في الجاهلية إذا نزلوا بالوادي قالوا: نعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ ما فيه، فلا يكون بشيء أشدّ ولعاً منهم بهم، فذلك قوله: {فَزَادوهُمْ رَهَقاً}. وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي عن ابن عباس قال: كانت الشياطين لهم مقاعد في السماء يسمعون فيها الوحي، فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعاً، فأما الكلمة فتكون حقاً، وأما ما زادوا فيكون باطلاً، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك. فقال لهم: ما هذا إلاّ من أمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي بين جبلين بمكة، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} يقول: منا المسلم ومنا المشرك، و{كُنَّا طَرَائِقَ قِدَداً} أهواء شتى. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} قال: لا يخاف نقصاً من حسناته ولا زيادة في سيئاته.
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)} قوله: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} هم الذين آمنوا بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. {وَمِنَّا القاسطون} أي: الجائرون الظالمون الذين حادوا عن طريق الحق ومالوا إلى طريق الباطل، يقال: قسط إذا جار، وأقسط: إذا عدل {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أي: قصدوا طريق الحق. قال الفراء: أمَّوا الهدى. {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أي: وقوداً للنار توقد بهم، كما توقد بكفرة الإنس {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة} هذا ليس من قول الجنّ بل هو معطوف على {أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن} [الجن: 1] والمعنى: وأوحي إليّ أن الشأن لو استقام الجنّ أو الإنس، أو كلاهما على الطريقة، وهي طريقة الإسلام، وقد قدّمنا أن القراء اتفقوا على فتح أن هاهنا. قال ابن الأنباري: والفتح هنا على إضمار يمين تأويلها والله أن لو استقاموا على الطريقة كما فعل، يقال في الكلام: والله لو قمت لقمت، كما في قول الشاعر: أما والله أن لو كنت حرّا *** ولا بالحرّ أنت ولا العتيق قال: أو على {أوحي إليّ أنه استمع}، {وأن لو استقاموا}، أو على {آمنا به} أي: آمنا به، وبأن لو استقاموا. قرأ الجمهور بكسر الواو من (لو) لالتقاء الساكنين. وقرأ ابن وثاب، والأعمش بضمها {لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} أي: كثيراً واسعاً. قال مقاتل: ماء كثيراً من السماء، وذلك بعد ما رفع عنهم المطر سبع سنين. وقال ابن قتيبة: المعنى لو آمنوا جميعاً لوسعنا عليهم في الدنيا، وضرب الماء الغدق مثلاً؛ لأن الخير كله والرزق بالمطر، وهذا كقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب ءامَنُواْ واتقوا} [المائدة: 65] الآية، وقوله: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 3] وقوله: {فقلت استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مُّدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بأموال وَبَنِينَ} [نوح: 10 12] الآية. وقيل: المعنى: وأن لو استقام أبوهم على عبادته، وسجد لآدم ولم يكفر، وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم، واختار هذا الزجاج. والماء الغدق: هو الكثير في لغة العرب. {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم، فنعلم كيف شكرهم على تلك النعم. وقال الكلبي: المعنى وأن لو استقاموا على الطريقة التي هم عليها من الكفر، فكانوا كلهم كفاراً، لأوسعنا أرزاقهم مكراً بهم واستدراجاً حتى يفتنوا بها، فنعذبهم في الدنيا والآخرة. وبه قال الربيع بن أنس، وزيد بن أسلم، وابنه عبد الرحمن، والثمالي، ويمان بن زيان، وابن كيسان، وأبو مجلز، واستدلوا بقوله: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَئ} [الأنعام: 44]، وقوله: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] الآية، والأوّل أولى {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} أي: ومن يعرض عن القرآن، أو عن العبادة، أو عن الموعظة، أو عن جميع ذلك يسلكه أي: يدخله عذاباً صعداً أي: شاقاً صعباً. قرأ الجمهور: " نسلكه " بالنون مفتوحة. وقرأ الكوفيون، وأبو عمرو في رواية عنه بالياء التحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد، وأبو حاتم لقوله: {عَن ذِكْرِ رَبّهِ} ولم يقل " عن ذكرنا ". وقرأ مسلم بن جندب، وطلحة بن مصرّف، والأعرج بضم النون وكسر اللام من أسلكه، وقراءة الجمهور من سلكه. والصعد في اللغة المشقة، تقول تصعد بي الأمر: إذا شقّ عليك، وهو مصدر صعد، يقال: صعد صعداً وصعوداً، فوصف به العذاب مبالغة؛ لأنه يتصعد المعذب أي: يعلوه ويغلبه فلا يطيقه. قال أبو عبيد: الصعد مصدر، أي: عذاباً ذا صعد. وقال عكرمة: الصعد هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم، كما في قوله: {سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر: 17] والصعود: العقبة الكئود. {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} قد قدّمنا اتفاق القراء هنا على الفتح، فهو معطوف على أنه استمع، أي: وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله. وقال الخليل: التقدير ولأن المساجد. والمساجد: المواضع التي بنيت للصلاة فيها. قال سعيد بن جبير: قالت الجنّ: كيف لنا أن نأتي المساجد، ونشهد معك الصلاة، ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت. وقال الحسن: أراد بها كل البقاع؛ لأن الأرض كلها مسجد. وقال سعيد بن المسيب، وطلق بن حبيب: أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد، وهي القدمان والركبتان واليدان والجبهة، يقول: هذه أعضاء أنعم الله بها عليك، فلا تسجد بها لغيره فتجحد نعمة الله، وكذا قال عطاء. وقيل: المساجد هي الصلاة؛ لأن السجود من جملة أركانها، قاله الحسن: {فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} من خلقه كائناً ما كان. {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} قد قدّمنا أن الجمهور قرءوا هنا بفتح «أن»، عطفاً على أنه استمع، أي: وأوحي إليّ أنّ الشأن لما قام عبد الله، وهو النبيّ صلى الله عليه وسلم {يَدْعُوهُ} أي: يدعوا الله ويعبده، وذلك ببطن نخلة، كما تقدّم حين قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويتلو القرآن، وقد قدّمنا أيضاً قراءة من قرأ بكسر «إن» هنا، وفيها غموض وبعد عن المعنى المراد {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} أي: كاد الجنّ يكونون على رسول الله صلى الله عليه وسلم لبداً أي: متراكمين من ازدحامهم عليه لسماع القرآن منه. قال الزجاج: ومعنى {لِبَداً}: يركب بعضهم بعضاً، ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش. قرأ الجمهور: {لبداً} بكسر اللام وفتح الباء. وقرأ مجاهد، وابن محيصن، وهشام بضم اللام وفتح الباء، وقرأ أبو حيوة، ومحمد بن السميفع، والعقيلي، والجحدري بضم الباء واللام. وقرأ الحسن، وأبو العالية، والأعرج بضم اللام وتشديد الباء مفتوحة. فعلى القراءة الأولى المعنى ما ذكرناه، وعلى قراءة ضم اللام يكون المعنى كثيراً، كما في قوله: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً} [البلد: 6] وقيل المعنى: كاد المشركون يركب بعضهم بعضاً حرداً على النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقال الحسن، وقتادة، وابن زيد: لما قام عبد الله محمد بالدعوة، تلبدت الإنس والجنّ على هذا الأمر ليطفئوه، فأبى الله إلاّ أن ينصره ويتم نوره. واختار هذا ابن جرير. قال مجاهد: {لِبَداً} أي: جماعات، وهو من تلبد الشيء على الشيء، أي: اجتمع، ومنه اللبد الذي يفرش لتراكم صوفه، وكل شيء ألصقته إلصاقاً شديداً، فقد لبدته، ويقال للشعر الذي على ظهر الأسد: لبدة، وجمعها لبد، ويقال للجراد الكثير: لبد؛ ويطلق اللبد بضم اللام وفتح الباء على الشيء الدائم، ومنه قيل لنسر لقمان: لبد لطول بقائه، وهو المقصود بقول النابغة: أخنى عليها الذي أخنى على لبد *** {قَالَ إِنَّمَا ادعو رَبّى} أي: قال عبد الله إنما أدعو ربي وأعبده {وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} من خلقه. قرأ الجمهور: {قال} وقرأ عاصم، وحمزة: «قل» على الأمر. وسبب نزولها أن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا فنحن نجيرك. {قُلْ إِنّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً} أي: لا أقدر أن أدفع عنك ضرّاً ولا أسوق إليكم خيراً. وقيل: الضرّ الكفر، والرشد الهدى، والأوّل أولى لوقوع النكرتين في سياق النفي، فهما يعمان كل ضرر وكل رشد في الدنيا والدين. {قُلْ إِنّى لَن يُجِيرَنِى مِنَ الله أَحَدٌ} أي: لا يدفع عني أحد عذابه إن أنزله بي {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي: ملجأ ومعدلاً وحرزاً، والملتحد معناه في اللغة الممال أي: موضعاً أميل إليه. قال قتادة: مولى. وقال السديّ: حرزاً، وقال الكلبي: مدخلاً في الأرض مثل السرب. وقيل: مذهباً ومسلكاً، والمعنى متقارب، ومنه قول الشاعر: يا لهف نفسي ولهفاً غير مجدية *** عني وما من قضاء الله ملتحد والاستثناء في قوله: {إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله} هو من قوله {لا أملك} أي: لا أملك ضرّاً ولا رشداً إلاّ التبليغ من الله، فإن فيه أعظم الرشد، أو من ملتحداً، أي: لن أجد من دونه ملجأ إلاّ التبليغ. قال مقاتل: ذلك الذي يجيرني من عذابه. وقال قتادة: إلاّ بلاغاً من الله، فذلك الذي أملكه بتوفيق الله، فأما الكفر والإيمان فلا أملكهما. قال الفراء: لكن أبلغكم ما أرسلت به، فهو على هذا منقطع. وقال الزجاج: هو منصوب على البدل من قوله: {مُلْتَحَدًا} أي: ولن أجد من دونه ملتحداً إلاّ أن أبلغ ما يأتي من الله، وقوله: {ورسالاته} معطوف على {بلاغاً} أي: إلاّ بلاغاً من الله، وإلاّ رسالاته التي أرسلني بها إليكم، أو إلاّ أن أبلغ عن الله، وأعمل برسالاته، فآخذ نفسي بما آمر به غيري. وقيل: الرسالات معطوفة على الاسم الشريف، أي: إلاّ بلاغاً عن الله وعن رسالاته، كذا قال أبو حيان ورجحه {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في الأمر بالتوحيد لأن السياق فيه {فإن لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} قرأ الجمهور بكسر إن على أنها جملة مستأنفة. وقرئ بفتح الهمزة؛ لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء، والتقدير: فجزاؤه أن له نار جهنم. أو فحكمه أن له نار جهنم، وانتصاب {خالدين فِيهَا} على الحال، أي: في النار، أو في جهنم، والجمع باعتبار معنى مَن كما أن التوحيد في قوله: {فَإِنَّ لَهُ} باعتبار لفظها، وقوله: {أَبَدًا} تأكيد لمعنى الخلود، أي: خالدين فيها بلا نهاية {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} يعني: من العذاب في الدنيا أو في الآخرة. والمعنى لا يزالون على ما هم عليه من الإصرار على الكفر وعداوة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حتى إذا رأوا الذي يوعدون به {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} أي: من هو أضعف جنداً ينتصر به، وأقلّ عدداً أهم أم المؤمنون؟ {قُلْ إِنْ أَدْرِى أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} أي: ما أدري أقريب حصول ما توعدون من العذاب {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبّى أَمَداً} أي: غاية ومدّة. أمره الله سبحانه أن يقول لهم هذا القول لما قالوا له: متى يكون هذا الذي توعدنا به؟ قال عطاء: يريد أنه لا يعرف يوم القيامة إلاّ الله وحده، والمعنى أن علم وقت العذاب علم غيب لا يعلمه إلاّ الله. قرأ الجمهور: {ربي} بإسكان الياء. وقرأ الحرميان، وأبو عمرو بفتحها، «وَمِنْ» في: {مَنْ أَضْعَفُ} موصولة، وأضعف خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أضعف، والجملة صلة الموصول، ويجوز أن تكون استفهامية مرتفعة على الابتداء، وأضعف خبرها، والجملة في محل نصب سادة مسدّ مفعولي أدري، وقوله: {أَقَرِيبٌ} خبر مقدّم {وَمَا تُوعَدُونَ} مبتدأ مؤخر. {عالم الغيب} قرأ الجمهور بالرفع على أنه بدل من ربي، أو بيان له، أو خبر مبتدأ محذوف، والجملة مستأنفة مقرّرة لما قبلها من عدم الدراية. وقرئ بالنصب على المدح. وقرأ السدي علم الغيب بصيغة الفعل ونصب الغيب، والفاء في: {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} لترتيب عدم الإظهار على تفرّده بعلم الغيب، أي: لا يطلع على الغيب الذي يعلمه، وهو ما غاب عن العباد أحداً منهم، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} أي: إلاّ من اصطفاه من الرسل، أو من ارتضاه منهم لإظهاره على بعض غيبه؛ ليكون ذلك دالاً على نبوّته. قال القرطبي: قال العلماء: لما تمدح سبحانه بعلم الغيب، واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضى من الرسل، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى، وينظر في الكف، ويزجر بالطين ممن ارتضاه من رسول، فيطلعه على ما يشاء من غيبه، فهو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه. وقال سعيد بن جبير: إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ هو جبريل، وفيه بعد. وقيل: المراد بقوله: {إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} فإنه يطلعه على بعض غيبه، وهو ما يتعلق برسالته كالمعجزة، وأحكام التكاليف، وجزاء الأعمال، وما يبينه من أحوال الآخرة، لا ما لا يتعلق برسالته من الغيوب، كوقت قيام الساعة ونحوه. قال الواحدي: وفي هذا دليل على أن من ادّعى أن النجوم تدله على ما يكون من حادث فقد كفر بما في القرآن. قال في الكشاف: وفي هذا إبطال للكرامات، لأن الذين تضاف إليهم، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب، وإبطال للكهانة والتنجيم؛ لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء، وأدخله في السخط. قال الرازي: وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه إذ لا صيغة عموم في غيبه، فتحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله: {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} الآية. فإن قيل: فما معنى الاستثناء حينئذٍ؟ قلنا: لعله إذا قربت القيامة يظهره، وكيف لا؟ وقد قال: {ويَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] فتعلم الملائكة حينئذٍ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع أي: من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ومن خلفه حفظة يحفظونه من شرّ مردة الجنّ والإنس. ويدلّ على أنه ليس المراد به لا يطلع أحداً على شيء من المغيبات أنه ثبت، كما يقارب التواتر أن شقاً وسطيحاً كانا كاهنين وقد عرّفا بحديث النبيّ صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره، وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتى رجع إليهما كسرى. فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً أطبق أهل الملل على أن معبر الرؤيا يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيها، وأيضاً قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان، وسألها عن أمور مستقبلة، فأخبرته بها، فوقعت على وفق كلامها. قال: وأخبرني ناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل، فكانت على وفق خبرها. وبالغ أبو البركات في كتاب التعبير في شرح حالها وقال: فحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً. وأيضاً فإنا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد نرى الأحكام النجومية مطابقة، وإن كانت قد تتخلف، ولو قلنا إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرّق الطعن إلى القرآن، فيكون التأويل ما ذكرنا، انتهى كلامه. قلت: أما قوله إذ لا صيغة عموم في غيبه، فباطل، فإن إضافة المصدر واسم الجنس من صيغ العموم، كما صرّح به أئمة الأصول وغيرهم. وأما قوله: أو هو استثناء منقطع، فمجرّد دعوى يأباه النظم القرآني. وأما قوله: إن شقاً وسطيحاً إلخ، فقد كانا في زمن تسترق فيه الشياطين السمع، ويلقون ما يسمعونه إلى الكهان، فيخلطون الصدق بالكذب، كما ثبت في الحديث الصحيح. وفي قوله: {إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة} [الصافات: 10] ونحوها من الآيات، فباب الكهانة قد ورد بيانه في هذه الشريعة، وأنه كان طريقاً لبعض الغيب بواسطة استراق الشياطين حتى منعوا ذلك بالبعثة المحمدية. وقالوا: {وأَنَاْ لَمَسْنَا السماء فوجدناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} [الجن: 8 9] فباب الكهانة في الوقت الذي كانت فيه مخصوص بأدلته، فهو من جملة ما يخصص به هذا العموم، فلا يرد ما زعمه من إيراد الكهانة على هذه الآية. وأما حديث المرأة الذي أورده فحديث خرافة، ولو سلم وقوع شيء مما حكاه عنها من الأخبار لكان من باب ما ورد في الحديث «إن في هذه الأمة محدّثين، وإن منهم عمر» فيكون كالتخصيص لعموم هذه الآية لا انقضاء لها، وأما ما اجترأ به على الله وعلى كتابه من قوله في آخر كلامه. فلو قلنا: إن القرآن يدلّ على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن، فيقال له: ما هذه بأوّل زلة من زلاتك، وسقطة من سقطاتك، وكم لها لديك من أشباه ونظائر نبض بها عرق فلسفتك، وركض بها الشيطان الذي صار يتخبطك في مباحث تفسيرك، يا عجباً لك أيكون ما بلغك من خبر هذه المرأة ونحوه موجباً لتطرّق الطعن إلى القرآن، وما أحسن ما قاله بعض أدباء عصرنا: وإذا رامت الذبابة للشم *** س غطاء مدّت عليها جناحا وقلت من أبيات: مهب رياح سدّه بجناح *** وقابل بالمصباح ضوء صباح فإن قلت: إذن قد تقرّر بهذا الدليل القرآني أن الله يظهر من ارتضى من رسله على ما شاء من غيبه، فهل للرسول الذي أظهره الله على ما شاء من غيبه أن يخبر به بعض أمته؟ قلت: نعم، ولا مانع من ذلك. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا ما لا يخفى على عارف بالسنة المطهرة، فمن ذلك ما صحّ أنه قام مقاماً أخبر فيه بما سيكون إلى يوم القيامة، وما ترك شيئًا مما يتعلق بالفتن ونحوها، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه، وكذلك ما ثبت من أن حذيفة بن اليمان كان قد أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحدث من الفتن بعده، حتى سأله عن ذلك أكابر الصحابة ورجعوا إليه. وثبت في الصحيح وغيره «أن عمر بن الخطاب سأله عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال: إن بينك وبينها باباً، فقال عمر: هل يفتح أو يكسر؟ فقال: بل يكسر، فعلم عمر أنه الباب، وأن كسره قتله»، كما في الحديث الصحيح المعروف أنه قيل لحذيفة: هل كان عمر يعلم ذلك؟ فقال: نعم كان يعلم أن دون غد الليلة. وكذلك ما ثبت من إخباره لأبي ذرّ بما يحدث له، وإخباره لعليّ بن أبي طالب بخبر ذي الثدية، ونحو هذا مما يكثر تعدده، ولو جمع لجاء منه مصنف مستقلّ. وإذا تقرّر هذا فلا مانع من أن يختصّ بعض صلحاء هذه الأمة بشيء من أخبار الغيب التي أظهرها الله لرسوله، وأظهرها رسوله لبعض أمته، وأظهرها هذا البعض من الأمة لمن بعدهم، فتكون كرامات الصالحين من هذا القبيل، والكل من الفيض الرّباني بواسطة الجناب النبويّ. ثم ذكر سبحانه أنه يحفظ ذلك الغيب الذي يطلع عليه الرسول فقال: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} والجملة تقرير للإظهار المستفاد من الاستثناء، والمعنى: أنه يجعل سبحانه بين يدي الرسول ومن خلفه حرساً من الملائكة يحرسونه من تعرّض الشياطين لما أظهره عليه من الغيب، أو يجعل بين يدي الوحي وخلفه حرساً من الملائكة يحوطونه من أن تسترقه الشياطين، فتلقيه إلى الكهنة، والمراد من جميع الجوانب. قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلاّ ومعه ملائكة يحفظونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره، وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربك. قال ابن زيد: {رَّصَداً}، أي: حفظة يحفظون النبيّ صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجنّ والشياطين. قال قتادة، وسعيد بن المسيب: هم أربعة من الملائكة حفظة. وقال الفراء: المراد جبريل. قال في الصحاح: الرصد القوم يرصدون كالحرس يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنث، والرصد للشيء الراقب له، يقال: رصده يرصده رصداً ورصداً، والترصد الترقب، والمرصد موضع الرصد. {لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ} اللام متعلق ب {يسلك}، والمراد به: العلم المتعلق بالإبلاغ الموجود بالفعل، وأن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، والخبر الجملة، والرسالات عبارة عن الغيب الذي أريد إظهاره لمن ارتضاه الله من رسول، وضمير أبلغوا يعود إلى الرصد. وقال قتادة، ومقاتل: ليعلم محمد أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة كما بلغ هو الرسالة، وفيه حذف تتعلق به اللام، أي: أخبرناه بحفظنا الوحي ليعلم أن الرسل قبله كانوا على حالته من التبليغ. وقيل: ليعلم محمد أن جبريل ومن معه قد أبلغوا إليه رسالات ربه، قاله سعيد بن جبير. وقيل: ليعلم الرسل أن الملائكة قد بلغوا رسالات ربهم. وقيل: ليعلم إبليس أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم من غير تخليط. وقال ابن قتيبة، أي: ليعلم الجنّ أن الرسل قد أبلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم. وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم. قرأ الجمهور: {ليعلم} بفتح التحتية على البناء للفاعل. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وحميد، ويعقوب، وزيد بن علي بضمها على البناء للمفعول، أي: ليعلم الناس أن الرسل قد أبلغوا. وقال الزجاج: ليعلم الله أن رسله قد أبلغوا رسالاته، أي: ليعلم ذلك عن مشاهدة كما علمه غيباً. وقرأ ابن أبي عبلة، والزهري بضم الياء وكسر اللام {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أي: بما عنده الرصد من الملائكة، أو بما عند الرسل المبلغين لرسالاته، والجملة في محل نصب على الحال من فاعل يسلك بإضمار قد، أي: والحال أنه تعالى قد أحاط بما لديهم من الأحوال. قال سعيد بن جبير: ليعلم أن ربهم قد أحاط بما لديهم فبلغوا رسالاته، {وأحصى كُلَّ شَئ عَدَداً} من جميع الأشياء التي كانت والتي ستكون، وهو معطوف على أحاط، وعدداً يجوز أن يكون منتصباً على التمييز محوّلاً من المفعول به، أي: وأحصى عدد كل شيء، كما في قوله: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] ويجوز أن يكون منصوباً على المصدرية، أو في موضع الحال: معدوداً، والمعنى: أن علمه سبحانه بالأشياء ليس على وجه الإجمال، بل على وجه التفصيل، أي: أحصى كل فرد من مخلوقاته على حدة. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال {القاسطون} العادلون عن الحقّ. وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة} قال: أقاموا ما أمروا به {لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً} قال: معيناً. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن السديّ قال: قال عمر: {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأسقيناهم مَّاء غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} قال: حيثما كان الماء كان المال، وحيثما كان المال كانت الفتنة. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} قال: لنبتليهم به. وفي قوله: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} قال: شقة من العذاب يصعد فيها. وأخرج هناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والحاكم وصححه عنه في قوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} قال: حبلاً في جهنم. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً {عَذَاباً صَعَداً} قال: لا راحة فيه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} قال: لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلاّ مسجد الحرام ومسجد إيلياء ببيت المقدس. وأخرج ابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل عن ابن مسعود قال: «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة إلى نواحي مكة، فخط لي خطاً، وقال: «لا تحدثن شيئًا حتى آتيك، ثم قال: لا يهولنك شيئًا تراه»، فتقدم شيئًا؛ ثم جلس، فإذا رجال سود كأنهم رجال الزطّ، وكانوا كما قال الله تعالى: {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}. وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن كادوا يركبونه من الحرص لما سمعوه، ودنوا منه، فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول، فجعل يقرئه: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مّنَ الجن}. وأخرج عبد بن حميد، والترمذي وصححه، وابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه أيضاً في الآية قال: «لما أتى الجنّ إلى رسول الله، وهو يصلي بأصحابه يركعون بركوعه، ويسجدون بسجوده، فعجبوا من طواعية أصحابه، فقالوا لقومهم: لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبداً». وأخرج ابن المنذر عنه أيضاً: {لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} أي: يدعو الله. وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} قال: أعواناً. وأخرج ابن المنذر، وابن مردويه عنه أيضاً: {فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} قال: أعلم الله الرسول من الغيب الوحي، وأظهره عليه مما أوحي إليه من غيبه، وما يحكم الله، فإنه لا يعلم ذلك غيره. وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عنه أيضاً: {رَّصَداً} قال: هي معقبات من الملائكة يحفظون رسول الله من الشياطين حتى تبين الذي أرسل إليهم به، وذلك حتى يقول أهل الشرك: قد أبلغوا رسالات ربهم. وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً قال: ما أنزل الله على نبيه آية من القرآن إلاّ ومعها أربعة من الملائكة يحفظونها، حتى يؤدّوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قرأ: {عالم الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} يعني: الملائكة الأربعة {لّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رسالات رَبّهِمْ}.
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)} قوله: {يأَيُّهَا المزمل} أصله المتزمل، فأدغمت التاء في الزاي، والتزمل: التلفف في الثوب. قرأ الجمهور: {المزمل} بالإدغام. وقرأ أبيّ: «المتزمل» على الأصل. وقرأ عكرمة بتخفيف الزاي، ومثل هذه القراءة قول امرئ القيس: كأن ثبيرا في أفانين وبله *** كبير أناس في لحاد مزّمل وهذا الخطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف في معناه، فقال جماعة: إنه كان يتزمل صلى الله عليه وسلم بثيابه في أوّل ما جاءه جبريل بالوحي فرقاً منه حتى أنس به. وقيل المعنى: يا أيها المزمل بالنبوّة، والملتزم للرسالة. وبهذا قال عكرمة وكان يقرأ: «يا أيها المزمل» بتخفيف الزاي وفتح الميم مشدّدة اسم مفعول. وقيل المعنى: يا أيها المزمل بالقرآن. وقال الضحاك: تزمل بثيابه لمنامه. وقيل: بلغه من المشركين سوء قول، فتزمل في ثيابه وتدثر، فنزلت: {يأَيُّهَا المزمل} و{يأَيُّهَا المدثر} [المدثر: 1]. وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الملك، ونظر إليه أخذته الرعدة، فأتى أهله، وقال: «زملوني دثروني» وكان خطابه صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب في أول نزول الوحي. ثم بعد ذلك خوطب بالنبوّة والرسالة {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً} أي: قم للصلاة في الليل. قرأ الجمهور: {قم} بكسر الميم لالتقاء الساكنين. وقرأ أبو السماك بضمها اتباعاً لضمة القاف. قال عثمان بن جني: الغرض بهذه الحركة الهرب من التقاء الساكنين فبأيّ حركة تحرك فقد وقع الغرض. وانتصاب الليل على الظرفية. وقيل: إن معنى {قم} صلّ، عبر به عنه واستعير له. واختلف هل كان هذا القيام الذي أمر به فرضاً عليه أو نفلاً؟ وسيأتي إن شاء الله ما روي في ذلك. وقوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} استثناء من الليل أي: صلّ الليل كله إلاّ يسيراً منه، والقليل من الشيء هو ما دون النصف. وقيل: ما دون السدس. وقيل: ما دون العشر. وقال مقاتل، والكلبي: المراد بالقليل هنا الثلث، وقد أغنانا عن هذا الاختلاف قوله {نّصْفَهُ} إلخ، وانتصاب {نصفه} على أنه بدل من الليل. قال الزجاج: نصفه بدل من الليل، وإلاّ قليلاً استثناء من النصف، والضمير في منه وعليه عائد إلى النصف. والمعنى: قم نصف الليل، أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث، أو زد عليه قليلاً إلى الثلثين، فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه. وقيل: إن نصفه بدل من قوله {قليلاً} فيكون المعنى: قم الليل إلاّ نصفه، أو أقلّ من نصفه، أو أكثر من نصفه، قال الأخفش: نصفه أي: أو نصفه، كما يقال: أعطه درهماً درهمين ثلاثة، يريد، أو درهمين، أو ثلاثة. قال الواحدي: قال المفسرون: أو انقص من النصف قليلاً إلى الثلث، أو زد على النصف إلى الثلثين، جعل له سعة في مدة قيامه في الليل، وخيره في هذه الساعات للقيام، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم وطائفة معه يقومون على هذه المقادير، وشقّ ذلك عليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلّى، أو كم بقي من الليل، فكان يقوم الليل كله حتى خفف الله عنهم، وقيل: الضميران في منه وعليه راجعان للأقل من النصف، كأنه قال: قم أقل من نصفه، أو قم أنقص من ذلك الأقلّ، أو أزيد منه قليلاً، وهو بعيد جداً، والظاهر أن نصفه بدل من قليلاً، والضميران راجعان إلى النصف المبدل من {قليلاً}. واختلف في الناسخ لهذا الأمر. وقيل: هو قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} [المزمل: 20] إلى آخر السورة. وقيل: هو قوله: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} وقيل: هو قوله: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى}. وقيل: هو منسوخ بالصلوات الخمس، وبهذا قال مقاتل، والشافعي، وابن كيسان. وقيل: هو قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وذهب الحسن، وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة {وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً} أي: اقرأه على مهل مع تدبر. قال الضحاك: اقرأه حرفاً حرفاً. قال الزجاج: هو أن يبيّن جميع الحروف، ويوفي حقها من الإشباع. وأصل الترتيل التنضيد، والتنسيق، وحسن النظام، وتأكيد الفعل بالمصدر يدلّ على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته المعتبرة. {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} أي: سنوحي إليك القرآن، وهو قول ثقيل. قال قتادة: ثقيل، والله فرائضه وحدوده. قال مجاهد: حلاله وحرامه. قال الحسن: العمل به. قال أبو العالية: ثقيلاً بالوعدوالوعيد، والحلال والحرام. وقال محمد بن كعب: ثقيل على المنافقين والكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالهم، وسبّ إلهتهم. وقال السديّ: ثقيل بمعنى كريم من قولهم فلان ثقيل عليّ، أي: يكرم عليّ. قال الفراء: ثقيلاً رزيناً ليس بالخفيف السفساف. لأنه كلام ربنا. وقال الحسين بن الفضل: ثقيلاً لا يحمله إلاّ قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزينة بالتوحيد. وقيل: وصفه بكونه ثقيلاً حقيقة لما ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها على الأرض، فما تستطيع أن تتحرّك حتى يسري عنه. {إِنَّ نَاشِئَةَ اليل} أي: ساعاته وأوقاته؛ لأنها تنشأ أوّلاً فأوّلاً، يقال: نشأ الشيء ينشأ: إذا ابتدأ وأقبل شيئًا بعد شيء، فهو ناشئ، وأنشأه الله فنشأ، ومنه نشأت السحاب: إذا بدأت، فناشئة فاعلة من نشأ ينشأ، فهي ناشئة. قال الزجاج: ناشئة الليل كل ما نشأ منه، أي: حدث، فهو ناشئة، قال الواحدي: قال المفسرون: الليل كله ناشئة، والمراد أن ساعات الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم الموصوف. وقيل: إن ناشئة الليل هي النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة أي: تنهض، من نشأ من مكانه: إذا نهض. وقيل: الناشئة بالحبشية قيام الليل، وقيل: إنما يقال لقيام الليل ناشئة: إذا كان بعد نوم. قال ابن الأعرابي: إذا نمت من أوّل الليل ثم قمت فتلك المنشأة والنشأة، ومنه ناشئة الليل. قيل: وناشئة الليل هي ما بين المغرب والعشاء، لأن معنى نشأ ابتدأ، ومنه قول نصيب: ولولا أن يقال صبا نصيب *** لقلت بنفسي النشأ الصغار قال عكرمة، وعطاء: إن ناشئة الليل بدوّ الليل. وقال مجاهد وغيره: هي في الليل كله؛ لأنه ينشأ بعد النهار، واختار هذا مالك. وقال ابن كيسان: هي القيام من آخر الليل. قال في الصحاح: ناشئة الليل أوّل ساعاته. وقال الحسن: هي ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح {هِىَ أَشَدُّ وَطْأً} قرأ الجمهور: {وطأ} بفتح الواو وسكون الطاء مقصورة، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ أبو العالية، وابن أبي إسحاق، ومجاهد، وأبو عمرو، وابن عامر، وحميد، وابن محيصن، والمغيرة، وأبو حيوة بكسر الواو وفتح الطاء ممدودة، واختار هذه القراءة أبو عبيد، فالمعنى على القراءة الأولى أن الصلاة في ناشئة الليل أثقل على المصلي من صلاة النهار؛ لأن الليل للنوم. قال ابن قتيبة: المعنى أنها أثقل على المصلي من ساعات النهار، من قول العرب: اشتدّت على القوم وطأة السلطان: إذا ثقل عليهم ما يلزمهم منه، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: {اللَّهمّ اشدد وطأتك على مضر} والمعنى على القراءة الثانية أنها أشدّ مواطأة، أي: موافقة، من قولهم: واطأت فلاناً على كذا مواطأة ووطاء: إذا وافقته عليه. قال مجاهد، وابن أبي مليكة: أي أشد موافقة بين السمع والبصر، والقلب واللسان لانقطاع الأصوات والحركات فيها، ومنه {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} [التوبة: 37] أي: ليوافقوا. وقال الأخفش: أشدّ قياماً. وقال الفرّاء أي: أثبت للعمل، وأدوم لمن أراد الاستكثار من العبادة، والليل وقت الفراغ عن الاشتغال بالمعاش، فعبادته تدوم ولا تنقطع. وقال الكلبي: أشدّ نشاطاً {وَأَقْوَمُ قِيلاً} أي: وأشدّ مقالاً، وأثبت قراءة لحضور القلب فيها وهدوء الأصوات، وأشدّ استقامة واستمراراً على الصواب؛ لأن الأصوات فيها هادئة والدنيا ساكنة، فلا يضطرب على المصلي ما يقرؤه. قال قتادة، ومجاهد: أي أصوب للقراءة، وأثبت للقول؛ لأنه زمان التفهم. قال أبو عليّ الفارسي: أقوم قليلاً، أي: أشدّ استقامة لفراغ البال بالليل. قال الكلبي: أي أبين قولاً بالقرآن. وقال عكرمة: أي أتمّ نشاطاً وإخلاصاً وأكثر بركة. وقال ابن زيد: أجدر أن يتفقه في القرآن. وقيل: أعجل إجابة للدعاء. {إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} قرأ الجمهور: {سبحاً} بالحاء المهملة أي: تصرفاً في حوائجك، وإقبالاً وإدباراً، وذهاباً ومجيئاً. والسبح: الجري والدوران، ومنه السباحة في الماء لتقلبه ببدنه ورجليه، وفرس سابح، أي: شديد الجري. وقيل: السبح الفراغ أي: إن لك فراغاً بالنهار للحاجات، فصلّ بالليل. قال ابن قتيبة: أي تصرّفاً، وإقبالاً وإدباراً في حوائجك وأشغالك. وقال الخليل: إن لك في النهار سبحاً، أي: نوماً، والتسبح التمدّد. قال الزجاج: المعنى إن فاتك في الليل شيء فلك في النهار فراغ للاستدراك. وقرأ يحيى بن يعمر، وأبو وائل، وابن أبي عبلة: «سبخاً» بالخاء المعجمة. قيل: ومعنى هذه القراءة: الخفة والسعة والاستراحة. قال الأصمعي: يقال: سبخ الله عنك الحمى، أي: خففها، وسبخ الحرّ فتر وخفّ، ومنه قول الشاعر: فسبخ عليك الهمّ واعلم بأنه *** إذا قدّر الرحمن شيئًا فكائن أي: خفف عنك الهمّ. والتسبيخ من القطن: ما ينسج بعد الندف، ومنه قول الأخطل: فأرسلوهنّ يذرين التراب كما *** تذري سبائخ قطن ندف أوتار قال ثعلب: السبخ بالخاء المعجمة التردّد والاضطراب، والسبخ السكون. وقال أبو عمرو: السبخ النوم والفراغ. {واذكر اسم رَبّكَ} أي: ادعه بأسمائه الحسنى. وقيل: اقرأ باسم ربك في ابتداء صلاتك، وقيل: اذكر اسم ربك في وعده ووعيده لتوفر على طاعته، وتبعد عن معصيته. وقيل المعنى: دم على ذكر ربك ليلاً ونهاراً، واستكثر من ذلك. وقال الكلبي: المعنى صلّ لربك {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} أي: انقطع إليه انقطاعاً بالاشتغال بعبادته، والتبتل: الانقطاع، يقال: بتلت الشيء أي: قطعته وميزته من غيره، وصدقة بتلة، أي: منقطعة من مال صاحبها، ويقال للراهب متبتل: لانقطاعه عن الناس، ومنه قول الشاعر: تضيء الظلام بالعشاء كأنها *** منارة ممسى راهب متبتل ووضع {تبتيلاً} مكان تبتلاً لرعاية الفواصل. قال الواحدي: والتبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله. {رَّبُّ المشرق والمغرب} قرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، وابن عامر بجرّ ربّ على النعت لربك، أو البدل منه، أو البيان له. وقرأ الباقون برفعه على أنه مبتدأ، وخبره {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو ربّ المشرق، وقرأ زيد بن عليّ بنصبه على المدح. وقرأ الجمهور: {المشرق والمغرب} مفردين. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس «المشارق والمغارب» على الجمع. وقد قدّمنا تفسير المشرق والمغرب، والمشرقين والمغربين، والمشارق والمغارب {فاتخذه وَكِيلاً} أي: إذا عرفت أنه المختص بالربوبية، فاتخذه وكيلاً، أي: قائماً بأمورك، وعوّل عليه في جميعها. وقيل: كفيلاً بما وعدك من الجزاء والنصر {واصبر على مَا يَقُولُونَ} من الأذى والسب والاستهزاء، ولا تجزع من ذلك {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} أي: لا تتعرّض لهم، ولا تشتغل بمكافأتهم. وقيل: الهجر الجميل الذي لا جزع فيه. وهذا كان قبل الأمر بالقتال. {وَذَرْنِى والمكذبين} أي: دعني وإياهم، ولا تهتم بهم فإني أكفيك أمرهم وأنتقم لك منهم. قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، وهم عشرة وقد تقدّم ذكرهم. وقال يحيى بن سلام: هم بنو المغيرة. وقال سعيد بن جبير: أخبرت أنهم اثنا عشر {أُوْلِى النعمة} أي: أرباب الغنى والسعة والترفه واللذة في الدنيا {وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً} أي: تمهيلاً قليلاً على أنه نعت لمصدر محذوف، أو زماناً قليلاً على أنه صفة لزمان محذوف، والمعنى أمهلهم إلى انقضاء آجالهم. وقيل: إلى نزول عقوبة الدنيا بهم كيوم بدر، والأول أولى لقوله: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} وما بعده، فإنه وعيد لهم بعذاب الآخرة، والأنكال جمع نكل، وهو القيد، كذا قال الحسن، ومجاهد، وغيرهما. وقال الكلبي: الأنكال: الأغلال، والأوّل أعرف في اللغة، ومنه قول الخنساء: أتوك فقطعت أنكالهم *** وقد كنّ قبلك لا تقطع وقال مقاتل: هي أنواع العذاب الشديد. وقال أبو عمران الجوني: هي قيود لا تحلّ {وَجَحِيماً} أي: ناراً مؤججة {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} أي: لا يسوغ في الحلق بل ينشب فيه، فلا ينزل، ولا يخرج. قال مجاهد: هو الزقوم. وقال الزجاج: هو الضريع، كما قال: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] قال: وهو شوك العوسج، قال عكرمة: هو شوك يأخذ بالحلق لا يدخل ولا يخرج، والغصة: الشجا في الحلق، وهو ما ينشب فيه من عظم أو غيره، وجمعها غصص {وَعَذَاباً أَلِيماً} أي: ونوعاً آخر من العذاب غير ما ذكر. {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال} انتصاب الظرف إما بذرني، أو بالاستقرار المتعلق به لدينا، أو هو صفة لعذاب، فيتعلق بمحذوف أي: عذاباً واقعاً يوم ترجف، أو متعلق ب {أليماً}. قرأ الجمهور: {ترجف} بفتح التاء وضم الجيم مبنياً للفاعل، وقرأ زيد بن عليّ على البناء للمفعول. مأخوذ من أرجفها، والمعنى: تتحرك وتضطرب بمن عليها، والرجفة: الزلزلة والرعدة الشديدة {وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً} أي: وتكون الجبال، وإنما عبر عنه بالماضي لتحقق وقوعه، والكثيب الرمل المجتمع، والمهيل الذي يمرّ تحت الأرجل. قال الواحدي: أي رملاً سائلاً يقال لكل شيء أرسلته إرسالاً من تراب، أو طعام: أهلته هيلاً. قال الضحاك، والكلبي: المهيل الذي إذا وطئته بالقدم زلّ من تحتها، وإذا أخذت أسفله انهال. ومنه قول حسان: عرفت ديار زينب بالكثيب *** كخط الوحي في الورق القشيب {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهدا عَلَيْكُمْ} الخطاب لأهل مكة أو لكفار العرب أو لجميع الكفار. والرسول محمد، والمعنى: يشهد عليكم يوم القيامة بأعمالكم {كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} يعني: موسى. {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} الذي أرسلناه إليه وكذبه، ولم يؤمن بما جاء به، ومحل الكاف النصب على أنها نعت لمصدر محذوف، والمعنى: إنا أرسلنا إليكم رسولاً فعصيتموه، كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصاه {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} أي: شديداً ثقيلاً غليظاً، والمعنى: عاقبنا فرعون عقوبة شديدة غليظة بالغرق؛ وفيه تخويف لأهل مكة أنه سينزل بهم من العقوبة مثل ما نزل به، وإن اختلف نوع العقوبة. قال الزجاج أي: ثقيلاً غليظاً، ومنه قيل للمطر: وابل. وقال الأخفش: شديداً، والمعنى متقارب، ومنه طعام وبيل: إذا كان لا يستمرأ، ومنه قول الخنساء: لقد أكلت بجيلة يوم لاقت *** فوارس مالك أكلاً وبيلا {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ} أي: كيف تقون أنفسكم {إِن كَفَرْتُمْ} أي: إن بقيتم على كفركم {يَوْماً} أي: عذاب يوم {يَجْعَلُ الولدان شِيباً} لشدّة هوله، أي: يصير الولدان شيوخاً، والشيب جمع أشيب، وهذا يجوز أن يكون حقيقة، وأنهم يصيرون كذلك، أو تمثيلاً؛ لأن من شاهد الهول العظيم تقاصرت قواه وضعفت أعضاؤه، وصار كالشيخ في الضعف وسقوط القوّة، وفي هذا تقريع لهم شديد وتوبيخ عظيم. قال الحسن: أي كيف تتقون يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم، وكذا قرأ ابن مسعود، وعطية، ويوماً مفعول به لتتقون. قال ابن الأنباري: ومنهم من نصب اليوم بكفرتم، وهذا قبيح، والولدان الصبيان، ثم زاد في وصف ذلك اليوم بالشدّة، فقال: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} أي: متشققة به لشدّته وعظيم هوله، والجملة صفة أخرى ليوم، والباء سببية، وقيل: هي بمعنى في أي: منفطر فيه، وقيل: بمعنى اللام أي: منفطر له، وإنما قال: {منفطر} ولم يقل: «منفطرة» لتنزيل السماء منزلة شيء لكونها قد تغيرت، ولم يبق منها إلاّ ما يعبر عنه بالشيء. وقال أبو عمرو بن العلاء: لم يقل: «منفطرة»؛ لأن مجازها السقف، كما قال الشاعر: فلو رفع السماء إليه قوما *** لحقنا بالسماء وبالسحاب فيكون هذا، كما في قوله: {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32]. وقال الفرّاء: السماء تذكر وتؤنث. وقال أبو عليّ الفارسي: هو من باب الجراد المنتشر، والشجر الأخضر، و{أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] قال أيضاً: أي السماء ذات انفطار. كقولهم: امرأة مرضع، أي: ذات إرضاع على طريق النسب، وانفطارها لنزول الملائكة، كما قال: {إِذَا السماء انفطرت} [الانفطار: 1] وقوله: {السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 5]. وقيل: منفطر به، أي: بالله، والمراد: بأمره، والأوّل أولى {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً} أي: وكان وعد الله بما وعد به من البعث والحساب وغير ذلك كائناً لا محالة، والمصدر مضاف إلى فاعله، أو وكان وعد اليوم مفعولاً، فالمصدر مضاف إلى مفعوله. وقال مقاتل: كان وعده أن يظهر دينه على الدين كله. وقد أخرج أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة، والبيهقي في سننه عن سعد بن هشام قال: قلت لعائشة: أنبئيني عن قيام رسول الله، قالت: ألست تقرأ هذه السورة {يأَيُّهَا المزمل}؟ قلت: بلى، قالت: فإن الله افترض قيام الليل في أولّ هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً، ثم أنزل التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوّعاً من بعد فرضه، وقد روي هذا الحديث عنها من طرق. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، ومحمد بن نصر، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: لما نزلت أوّل المزمل كانوا يقومون نحواً من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها، وكان بين أوّلها وآخرها نحو من سنة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن نصر عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: لما نزلت يا أيها المزمل قاموا حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] فاستراح الناس. وأخرج أبو داود في ناسخه، وابن نصر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: في المزمل: {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً نّصْفَهُ} نسختها الآية التي فيها: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} [المزمل: 20] وناشئة الليل أوّله كان صلاتهم أوّل الليل، يقول: هذا أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من قيام الليل، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ، وقوله: {أَقْوَمُ قِيلاً} هو أجدر أن يفقه قراءة القرآن، وقوله: {إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} يقول: فراغاً طويلاً. وأخرج الحاكم وصححه عنه في قوله: {يأَيُّهَا المزمل} قال: زملت هذا الأمر فقم به. وأخرج ابن المنذر عنه في الآية أيضاً قال: يتزمل بالثياب. وأخرج الفريابي، عن أبي صالح عنه أيضاً: {وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً} قال: تقرأ آيتين ثلاثاً ثم تقطع لا تهدر. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن منيع في مسنده، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ومحمد بن نصر عنه أيضاً: {وَرَتّلِ القرءان تَرْتِيلاً} قال: بيّنه تبييناً. وأخرج العسكري في المواعظ عن عليّ بن أبي طالب مرفوعاً نحوه. وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن نصر، والحاكم وصححه عن عائشة: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه، وهو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن تتحرّك حتى يسرّي عنه، وتلت {إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً}». وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن نصر، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ نَاشِئَةَ اليل} قال: قيام الليل بلسان الحبشة إذا قام الرجل قالوا: نشأ. وأخرج البيهقي عنه قال: {نَاشِئَةَ اليل} أوّله. وأخرج ابن المنذر، وابن نصر عنه أيضاً قال: الليل كله ناشئة. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: {نَاشِئَةَ اليل} بالحبشة قيام الليل. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن نصر، والبيهقي في سننه عن أنس بن مالك قال: {نَاشِئَةَ اليل} ما بين المغرب والعشاء. وأخرج عبد بن حميد، وابن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ لَكَ فِى النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} قال: السبح الفراغ للحاجة والنوم. وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن عائشة قالت: لما نزلت: {وَذَرْنِى والمكذبين أُوْلِى النعمة وَمَهّلْهُمْ قَلِيلاً} لم يكن إلاّ يسيراً حتى كانت وقعة بدر. وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً} قال: قيوداً. وأخرج عبد بن حميد، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي عن ابن عباس: {وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ} قال: شجرة الزقوم. وأخرج الحاكم وصححه عنه في قوله: {كَثِيباً مَّهِيلاً} قال: المهيل الذي إذا أخذت منه شيئًا تبعك آخره. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً {كَثِيباً مَّهِيلاً} قال: الرمل السائل، وفي قوله: {أَخْذاً وَبِيلاً} قال: شديداً. وأخرج الطبراني، وابن مردويه عنه أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {يَجْعَلُ الولدان شِيباً} قال: «ذلك يوم القيامة، وذلك يوم يقول الله لآدم: قم، فابعث من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: من كم يا ربّ؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين، وينجو واحد، فاشتدّ ذلك على المسلمين، فقال حين أبصر ذلك في وجوههم: إن بني آدم كثير، وإن يأجوج، ومأجوج من ولد آدم، إنه لا يموت رجل منهم حتى يرثه لصلبه ألف رجل، ففيهم وفي أشباههم جنة لكم» وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه بأخصر منه. وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ} قال: ممتلئة بلسان الحبشة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: مثقلة موقرة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: يعني: تشقق السماء.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)} الإشارة بقوله: {إِنَّ هذه} إلى ما تقدّم من الآيات، والتذكرة الموعظة، والإشارة إلى جميع آيات القرآن، لا إلى ما في هذه السورة فقط {فَمَن شَاء اتخذ إلى رَبّهِ سَبِيلاً} أي: اتخذ بالطاعة التي أهم أنواعها التوحيد إلى ربه طريقاً توصله إلى الجنة. {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَىِ اليل} معنى {أدنى}: أقلّ، استعير له الأدنى؛ لأن المسافة بين السنين إذا دنت قلّ ما بينهما {وَنِصْفَهُ} معطوف على أدنى {وَثُلُثَهُ} معطوف على نصفه، والمعنى: أن الله يعلم أن رسوله صلى الله عليه وسلم يقوم أقلّ من ثلثي الليل، ويقوم نصفه، ويقوم ثلثه، وبالنصب قرأ ابن كثير، والكوفيون، وقرأ الجمهور: «ونصفه وثلثه» بالجر عطفاً على ثلثي الليل، والمعنى: أن الله يعلم أن رسوله يقوم أقلّ من ثلثي الليل، وأقلّ من نصفه، وأقلّ من ثلثه، واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه. وقال الفرّاء: القراءة الأولى أشبه بالصواب؛ لأنه قال: أقلّ من ثلثي الليل، ثم فسر نفس القلة {وَطَائِفَةٌ مّنَ الذين مَعَكَ} معطوف على الضمير في تقوم: أي: وتقوم ذلك القدر معك طائفة من أصحابك. {والله يُقَدّرُ اليل والنهار} أي: يعلم مقادير الليل والنهار على حقائقها، ويختص بذلك دون غيره، وأنتم لا تعلمون ذلك على الحقيقة. قال عطاء: يريد لا يفوته علم ما تفعلون. أي: أنه يعلم مقادير الليل والنهار، فيعلم قدر الذي تقومونه من الليل {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أن لن تطيقوا علم مقادير الليل والنهار على الحقيقة، وفي أن ضمير شأن محذوف. وقيل المعنى: لن تطيقوا قيام الليل. قال القرطبي: والأوّل أصحّ، فإن قيام الليل ما فرض كله قط، قال مقاتل وغيره: لما نزل {قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 2 4] شقّ ذلك عليهم، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل من ثلثه، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطئ، فانتفخت أقدامهم، وانتقعت ألوانهم، فرحمهم الله، وخفف عنهم فقال: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ} أي: علم أن لن تحصوه؛ لأنكم إن زدتم ثقل عليكم واحتجتم إلى تكلف ما ليس فرضاً، وإن نقصتم شق ذلك عليكم. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} أي: فعاد عليكم بالعفو، ورخص لكم في ترك القيام. وقيل: فتاب عليكم من فرض القيام إذا عجزتم، وأصل التوبة الرجوع، كما تقدّم؛ فالمعنى: رجع بكم من التثقيل إلى التخفيف، ومن العسر إلى اليسر. {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرءان} أي فاقرءوا في الصلاة بالليل ما خف عليكم، وتيسّر لكم منه من غير أن ترقبوا وقتاً. قال الحسن: هو ما نقرأ في صلاة المغرب والعشاء. قال السديّ: ما تيسّر منه هو مائة آية. قال الحسن: أيضاً من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن. وقال كعب: من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين. وقال سعيد: خمسون آية. وقيل: معنى {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}: فصلوا ما تيسّر لكم من صلاة الليل، والصلاة تسمى قرآناً، كقوله: و{أَقِمِ الصلاة} [الإسراء: 78]. قيل: إن هذه الآية نسخت قيام الليل ونصفه، والنقصان من النصف والزيادة عليه، فيحتمل أن يكون ما تضمنته هذه الآية فرضاً ثابتاً، ويحتمل أن يكون منسوخاً لقوله: {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا} [الإسراء: 79]. قال الشافعي: الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين. فوجدنا سنة رسول الله تدلّ على أن لا واجب من الصلاة إلاّ الخمس. وقد ذهب قوم إلى أن قيام الليل نسخ في حقه وفي حق أمته. وقيل: نسخ التقدير بمقدار وبقي أصل الوجوب. وقيل: إنه نسخ في حق الأمة، وبقي فرضاً في حقه، والأولى القول بنسخ قيام الليل على العموم في حقه وفي حق أمته، وليس في قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} ما يدل على بقاء شيء من الوجوب؛ لأنه إن كان المراد به القراءة من القرآن، فقد وجدت في صلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من النوافل المؤكدة، وإن كان المراد به الصلاة من الليل، فقد وجدت صلاة الليل بصلاة المغرب والعشاء وما يتبعهما من التطوّع. وأيضاً الأحاديث الصحيحة المصرّحة بقول السائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم هل عليّ غيرها، يعني: الصلوات الخمس؟ فقال: «لا، إلاّ أن تطوّع» تدل على عدم وجوب غيرها. فارتفع بهذا وجوب قيام الليل، وصلاته على الأمة، كما ارتفع وجوب ذلك على النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمِنَ اليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}، قال الواحدي: قال المفسرون في قوله: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} كان هذا في صدر الإسلام، ثم نسخ بالصلوات الخمس عن المؤمنين، وثبت على النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، وذلك قوله: {وأقيموا الصلاة}. ثم ذكر سبحانه عذرهم فقال: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} فلا يطيقون قيام الليل {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} أي: يسافرون فيها للتجارة والأرباح يطلبون من رزق الله ما يحتاجون إليه في معاشهم فلا يطيقون قيام الليل {وآخرون يقاتلون في سبيل الله} يعني: المجاهدين، فلا يطيقون قيام الليل. ذكر سبحانه ها هنا ثلاثة أسباب مقتضية للترخيص، ورفع وجوب قيام الليل، فرفعه عن جميع الأمة لأجل هذه الأعذار التي تنوب بعضهم. ثم ذكر ما يفعلونه بعد هذا الترخيص فقال: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} وقد سبق تفسيره قريباً، والتكرير للتأكيد {وأقيموا الصلاة} يعني: المفروضة، وهي الخمس لوقتها {وآتوا الزكاة} يعني: الواجبة في الأموال. وقال الحارث العكلي: هي صدقة الفطر؛ لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك. وقيل: صدقة التطوّع. وقيل: كل أفعال الخير {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً} أي: أنفقوا في سبيل الخير من أموالكم إنفاقاً حسناً، وقد مضى تفسيره في سورة الحديد. قال زيد بن أسلم: القرض الحسن النفقة على الأهل. وقيل: النفقة في الجهاد، وقيل: هو إخراج الزكاة المفترضة على وجه حسن، فيكون تفسيراً لقوله {وآتوا الزكاة} والأوّل أولى لقوله: {وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} فإن ظاهره العموم، أي: أيّ خير كان مما ذكر ومما لم يذكر {هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} مما تؤخرونه إلى عند الموت، أو توصون به ليخرج بعد موتكم، وانتصاب {خيراً} على أنه ثاني مفعولي تجدوه، وضمير هو ضمير فصل، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ أبو السماك، وابن السميفع بالرفع على أن يكون هو مبتدأ، وخير خبره، والجملة في محل نصب على أنها ثاني مفعولي تجدوه. قال أبو زيد: وهي لغة تميم يرفعون ما بعد ضمير الفصل، وأنشد سيبويه: تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها *** وكنت عليها بالملاء أنت أقدر وقرأ الجمهور أيضاً: {وأعظم} بالنصب عطفاً على {خيراً}، وقرأ أبو السماك، وابن السميفع بالرفع، كما قرأ برفع " خير "، وانتصاب {أجراً} على التمييز {واستغفروا الله} أي: اطلبوا منه المغفرة لذنوبكم، فإنكم لا تخلون من ذنوب تقترفونها {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: كثير المغفرة لمن استغفره، كثير الرحمة لمن استرحمه. وقد أخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والطبراني عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}. قال: «مائة آية». وأخرج الدراقطني، والبيهقي في سننه، وحسناه عن قيس بن أبي حازم قال: صليت خلف ابن عباس، فقرأ في أوّل ركعة بالحمد لله ربّ العالمين، وأوّل آية من البقرة، ثم ركع، فلما انصرفنا أقبل علينا، فقال: إن الله يقول: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} قال ابن كثير: وهذا حديث غريب جداً لم أره إلاّ في معجم الطبراني. وأخرج أحمد، والبيهقي في سننه عن أبي سعيد قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسّر». وقد قدّمنا في البحث الأوّل من هذه السورة ما روي أن هذه الآيات المذكورة هنا هي الناسخة لوجوب قيام الليل، فارجع إليه.
|